فصل: أمر النبوة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الإباية والحرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.أمر النبوة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الإباية والحرب:

لما استقر أمر قريش بمكة على ما استقر وافترقت قبائل مضر في أدنى مدن الشام والعراق وما دونهما من الحجاز فكانوا ظعونا وأحياء وكان جميعهم بمسغبة وفي جهد من العيش بحرب بلادهم وحرب فارس والروم على تلول العراق والشام وأربابهما ينزلون حاميتهم بثغورها ويجهزون كتائبهم بتخومها ويولون على العرب من رجالاتهم وبيوت العصائب منهم من يسومهم القهر ويحملهم على الإنقياد حتى يؤتوا جباية السلطان الأعظم وإتاوة ملك العرب ويؤدوا ما عليهم من الدعاء من الدماء والطوائل من يسترهن أبناءهم على السلم وكف العادية ومن انتجاع الأرباب وميرة الأقوات والعساكر من وراء ذلك توقع بمن منع الخراج وتستأصل من يروم الفساد وكان أمر مضر راجعا في ذلك إلى ملوك كندة بني حجر آكل المرار منذ ولاه عليهم تبع حسان كما ذكرناه ولم يكن في العرب ملك إلا في آل المنذر بالحيرة للفرس وفي آل جهينة بالشام للروم وفي بني حجر هؤلاء على مضر والحجاز وكانت قبائل مضر مع ذلك بل وسائر العرب أهل بغي وإلحاد وقطع للأرحام وتنافس في الردى وإعراض عن ذكر الله فكانت عبادتهم الأوثان والحجارة وأكلهم العقارب والخنافس والحيات والجعلان وأشرف طعامهم أوبار الإبل إذا أمروها في الحرارة في الدم وأعظم عزهم وفادة على آل المنذر وآل جهينة وبني جعفر ونجعة من ملوكهم وإنما كان تنافسهم المؤودة والسائبة والوصيلة والحامي.
فلما تأذن الله بظهورهم واشرأبت إلى الشرف هوادي أيامهم وتم أمر الله في إعلاء أمرهم وهبت ريح دولتهم وملة الله فيهم تبدت تباشير الصباح من أمرهم وأونس الخير والرشد في خلالهم وأبدل الله بالطيب الخبيث من أحوالهم وشرهم واستبدلوا بالذل عزا وبالمآثم متابا وبالشر خيرا ثم بالضلالة هدى وبالمسغبة شبغا وريا وإيالة وملكا وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه فكان لهم من العز والظهور قبل المبعث ما كان وأوقع بنو شيبان وسائر بكر بن وائل وعبس بن غظفان بطيء وهم يومئذ ولاة العرب بالحيرة وأميرها منهم قبيصة بن إياس ومعه الباهوت صاحب مسلحة كسرى فأوقعوا بهم الوقعة المشهورة بذي قار والتحمت عساكر الفرس وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمدينة ليومها وقال: «اليوم انتصفت العرب من العجم وبي نصروا» ووفد حاجب بن زرارة من بني تميم على كسرى في طلب الانتجاع والمسيرة بقومه في إباب العراق فطلب الأساورة منه الرهن عادتهم فأعطاهم قوسه واستكبر على استرهان ولده توقعوا منه عجزا عما سواها وانتقلت خلال الخير من العجم ورجالات فارس فصارت أغلب في العرب حتى كان الواحد منهم همه بخلافه وشرفه الشر والسفسفة على أهل دول العجم وانظر فيما كتب به عمر إلى أبي عبيدة بن المثنى حين وجهه إلى حرب فارس: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والحيرة تقدم على أقوام قد جرؤا على الشر فعملوه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون اهـ وتنافست العرب في الخلال وتنازعوا في المجد والشرف حسبما هو مذكور في أيامهم وأخبارهم وكان حظ قريش من ذلك أوفر على نسبة حظهم من مبعثه وعلى ما كانوا ينتحلونه من هدى آبائهم وانظر ما وقع في حلف الفصول حيث اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تميم فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته وسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
وفي الصحيح عن طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت».
ثم ألقى الله في قلوبهم التماس الدين وإنكار ما عليه قومهم من عبادة الأوثان حتى لقد اجتمع منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وعثمان بن الحويرث بن أسد وزيد بن عمرو بن نفيل من بني عدي بن كعب عم عمر بن الخطاب وعبيد الله بن جحش من بني أسد بن خزيمة وتلاوموا في عبادة الأحجار والأوثان وتواصلوا بالنفر في البلدان بالتماس الحنيفية دين إبراهيم نبيهم فأما ورقة فاستحكم في النصرانية وابتغى من أهلها الكتب حتى علم من أهل الكتاب وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه حتى جاء الإسلام فأسلم وهاجر إلى الحبشة فتنصر وهلك نصرانيا وكان يمر بالمهاجرين بأرض الحبشة فيقول: فقحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر مثل ما يقال في الجر وإذا فتح عينيه فقح وإذا أراد ولم يقدر صأصأ وأما عثمان بن الحويرث فقدم على ملك الروم قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده وأما زيد بن عمرو فما هم أن يدخل في دين ولا اتبع كتابا واعتزل الأوثان والذبائح والميتة والدم ونهى عن قتل الموؤدة وقال: أعبد رب إبراهيم وصرح بعيب آلهتهم وكان يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك ولكن لا أعلم ثم يسجد على راحته وقال ابنه سعيد وابنه عمه عمر بن الخطاب: يا رسول الله استغفر الله لزيد بن عمرو قال: نعم إنه يبعث أمة واحدة.
ثم تحدث الكهان والحزاة قبل النبوة وأنها كائنة في العرب وأن ملكهم سيظهر وتحدث أهل الكتاب من اليهود والنصارى بما في التوراة والإنجيل من بعث محمد وأمته وظهرت كرامة الله بقريش ومكة في أصحاب الفيل ارهاصا بين يدي مبعثه ثم ذهب ملك الحبشة من اليمن على يد ابن ذي يزن من بقية التبابعة ووفد عليه عبد المطلب يهنيه عند استرجاعه ملك قومه من أيدي الحبشة فبشره ابن ذي يزن بظهور نبي من العرب وأنه من ولده في قصة معروفة وتحين الأمر لنفسه كثير من رؤساء العرب يظنه فيه ونفروا إلى الرهبان والأحبار من أهل الكتاب يسألونهم ببلدتهم علم ذلك مثل أمية بن أبي الصلت الشقي وما وقع له في سفره إلى الشام مع أبي سفيان بن حرب وسؤاله الرهبان ومفاوضته أبا سفيان فيما وقف عليه من ذلك يظن أن الأمر له أو لأشراف قريش من بني عبد مناف حتى تبين لهما خلاف ذلك في قصة معروفة ثم رجمت الشياطين عن استماع خبر السماء في أمره وأصغى الكون لاستماع أنبائه.